الأحد، يناير 10، 2010

الفلكلور في إبداع الطيب صالح

صدر عن دار جامعة الخرطوم للنشر كتاب “الفلكلور في إبداع الطيب صالح” للقاص الدكتور محمد المهدي بشرى، أستاذ مادة الفلكلور بمعهد الدراسات الإفريقية والآسيوية جامعة الخرطوم وهي دراسة في جنس الفلكلور في أدب الروائي الطيب صالح، وقد كانت هذه الدراسة عبارة عن اطروحة الدكتوراه من قبل القاص محمد المهدي بشرى. ثمة دراسات كثيرة تناولت أدب الطيب صالح حتى تلك التي بغرض نيل درجة اكاديمية إلا أن هذه أول دراسة تتناول جنس الفلكلور في أدبه، ويعد محمد المهدي بشرى، من الأدباء الذين لهم إسهام متميز في مجال كتابة القصة القصيرة وأدب الأطفال بالإضافة إلى إسهامه في مجال الدراسات النقدية الأدبية عبر المنتديات المختلفة وأيضا عبر الصحف والمجلات السودانية وقد صدرت له مجموعة قصصية بعنوان “الصمود والانهيار” عن دار شهري عام 1986 أيضا مجموعة “الأسد والنمر” “وأم قيردون الحزينة” مجموعة حكايات للأطفال وهي مجموعة تحت الطبع.
استهل بشرى دراسته بوصفه متخصصا في الفلكلور بمدخل تعريفي لعلم الفلكلور موضحا أن تعريف المصطلح قد اختلف حوله الباحثين منذ أن اقترحه “وليام تومز” قبل قرن من الزمان، مؤكدا أن التعاريف التي اتخذتها “ماريا ليش” و”هيروم فرايد” ذات فهم أحادي لأنها تركز على الماضي دون الحاضر، وعلى الريف دون المدينة، وتنظر للفلكلور في قوالب جامدة وليس في حيويته وصورته كإبداع يتجدد مع تجدد الحياة، وكان من الطبيعي أن ينعكس غموض مصطلح الفلكلور على غموض الجنس الفلكلوري، كذلك لم تشغل الأدبيات المبكرة نفسها كثيرا بتحديد وتعريف الجنس الفلكلوري، مشيرا إلى أهمية الدراسة المطولة لجلادمير بروب ومساهمته هذه بمحاولة وضع أسس لتصنيف الجنس الفلكلوري، وفي نهاية الأمر يخلص الكاتب في دراسته لإبداع الطيب صالح إلى وجود الصعوبة نفسها التي اعترضت معظم الباحثين في محاولتهم تحديد مصطلح الجنس الفلكلوري بشكل دقيق ولكنه يرى أن مفتاح الأمر هو معرفة الثقافة التي يبدع في إطارها الجنس الفلكلوري ونقصد بها هنا ثقافة جماعة “الشايقية”، ومن ساكنهم من جامعات أخرى، أي ثقافة المجتمع الذي حاول الطيب صالح معالجته قصصيا وروائيا وهي ثقافة تتميز بعروبتها وإفريقيتها على حد سواء، وهي مثل أي ثقافة أخرى لها خصوصيتها وسنلاحظ أن الطيب صالح قد تشرب هذه الثقافة، وهضمها ولهذا وفق في استخدام جنس فلكلوري يتسق مع خصوصية هذه الثقافة وكانت أغلب الأجناس الواردة في سياق إبداعه تنتمي بصدق لهذه الثقافة، بل هو يستخدم هذه الأجناس على النحو الذي تم في واقع الأمر كما سنوضح فيما بعد مشيرا بعد ذلك إلى أن هذه الثقافة لا يختلف منهج دراستها عن منهج دراسة جماعة الجعليين الذي درسه سيد حامد حريز.
في مقدمته للكتاب، أوضح بشرى أن هذه المقدمة تدرس العلاقة بين الفلكلور والأدب المكتوب ثم تعدد دوافع الاختيار لإبداع الطيب صالح، مشيرا إلى أن العلاقة بين الأدب المكتوب والفلكلور تقوم على مشكلة يصعب معها تحديد طبيعة هذه العلاقة ولعل المشكلة تتضح مع مشكلة المصطلح نفسه وبوجه خاص في مصطلح “الأدب” فهو أيا كان لن يخرج عن علاقة ما تربطه بالفلكلور، فكلاهما إبداع ونشاط إنساني يسعى إلى التعبير عن الدواخل، ربما كان الفلكلور تعبيرا أكثر شمولا إذ يضم في داخله العديد من الفنون كفن القول والدراما، اضافة لهذا ان الأدب والفلكلور يقومان على محاكاة الواقع وتصويره بشكل تجديدي وتزداد حدة المشكلة كلما أمعنا في النظر في أشكال بعينها كالملحمة في الفلكلور والرواية في الأدب وليس أدل على هذا الفهم العام والذي ساد زمانا طويلا أن الرواية المعاصرة هي ملحمة العصر الحديث، وهذا يعني أن الرواية كجنس أدبي في أرقى صورها المعاصرة ما هي إلا بلورة وتجسيد لجنس ينتمي أصلا للفلكلور وهو الملحمة وتوجد أصلا في الأدب الشعبي وهذا ينطبق على العديد من الأجناس الأدبية كالشعر والمسرح، وذلك يرجع لتأخر اكتشاف الكتابة مما يعني أن الإنسان بدأ نشاطه الإبداعي شفاهة، وقد قطعت الدراسات النظرية والمنهجية في مجال الفلكلور شوطا طويلا، خاصة في ما يتعلق بمشكلة العلاقة بين الأدب والفلكلور. ويخلص الكاتب إلى أنه رغم تعدد الدراسات النظرية حول علاقة الأدب بالفلكلور، إلا أنها توفق في حسم أبعاد هذه العلاقة ويرجع هذا أساسا إلى قصور الفهم لطبيعة الفلكلور.
في الفصل الأول من الكتاب يتناول المؤلف علاقة المبدع السوداني بالتراث عامة والفلكلور خاصة مبينا أن ذلك لم يأخذ شكلا واضحا إلا في فترة الثلاثينات حيث تبلور مفهوم عام حول الذاتية وهو الأدب الذي اصطلح عليه ب”الأدب القومي” وتبنى حمزة الملك طمبل الرجوع للتراث ممثلا في اللهجة العامية لتوظيف إمكانات هذه اللهجة في شعر يتميز بالحداثة وينتهي في ذلك لكل من التجاني يوسف بشير، ومحمد احمد المحجوب إلى ضرورة تطوير التراث وذلك في مناداة التجاني بإثراء اللغة العامية فيما سماه الأدب الشعبي وثراء هذه اللغة في إيصال المعنى والمحجوب بإعادة صياغة القصص الشعبية، وأشار أيضا لأهمية القصائد التي تتحدث عن تاريخ السودان وأبطاله ويسميها ملاحم، وقد بدأ الاهتمام بالتراث عندما تم تأسيس شعبة أبحاث السودان بجامعة الخرطوم والتي أصبحت فيما بعد معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية ويضم ثلاث شعب، واحدة منها للفلكلور وقد كان لهذه المؤسسة الأكاديمية منذ إنشائها فضل الجمع الميداني والتسجيل والكتابة الصوتية وغيرها، وقد أعطت هذه المساهمات الأكاديمية للراوي الشعبي قيمته الحقيقية ونظرت إليه كمبدع خلاق له دور جوهري في أداء الجنس الفلكلوري، كما أكدت هذه المساهمات الدور المهم للفلكلور كعامل فعال في التنمية الاجتماعية والاقتصادية.
ويخلص الكاتب إلى أن مستويات تناول المبدع للتراث وتوظيفه يحددها موقف الكاتب من التراث وهذا لا يعني تباين مواقف هؤلاء المبدعين إذ غالبا ما نجدهم يتفقون على أهمية الملحمة التراثية في اللحظة التاريخية المحددة، وقد رأينا أنه حتى في مستوى معارضة التراث لا يسعى القاص لتحطيمه بقدر ما يسعى لإعادة بنائه وهو يعتقد أن التراث قد تصدع بمرور الوقت مما أدى إلى انقطاع الصلة بين التراث وجمهوره.
في الفصل الثاني يعالج الكاتب تحديد الجنس الفلكلوري وتوظيفه في أدب الطيب صالح ويبدأ بالأجناس المنطوقة كالشعر الشعبي، ثم يدلف إلى أجناس أكثر تعقيدا وهي تلك التي تندرج في إطار السلوك الشعبي كالكرامة وذلك ما يجعل النص الروائي أو القصص شبيهة بالنص الشعبي خاصة النص التراثي.
بعد ذلك يرصد الكاتب عددا من النماذج للشعر الشعبي في روايات وقصص الطيب صالح ثم ينتقل إلى جنس آخر وهو المثل الشعبي والأقوال السائدة يبينها ويوضح كيفية استخدامها من قبل الكاتب ثم يكشف عن استخدامات الطيب صالح للأدوات الشعبية خاصة في ما يختص بإشارة الناقد مختار عجوبة الذي تحدث عن تفوق الطيب صالح في استخدام التشبيهات المنتزعة من البيئة الشعبية، أيضا توظيف قصص كرامات الأولياء الصالحين. ويخلص بشرى إلى تحديد أساليب السرد لدى الطيب صالح ويوضح إمكاناته في توظيف العديد من الآداب العالمية مثل “الأحمر والأسود، لستندال، وألف ليلة وليلة”.
في الفصل الثالث يورد بشرى أسطورة الغريب الحكيم وكيفية توظيف الطيب صالح لها في رواياته وتسود أسطورة الغريب الحكيم بشكل جلي في الثقافات الافريقية، خاصة تلك التي تلاحقت بالثقافة الإسلامية عبر مختلف المراحل التاريخية، والثقافة السودانية واحدة من نماذج هذه الثقافات، الأمر الذي يفسر بروز الأسطورة.. في روايات وقصص الطيب صالح الذي يقترب من الأسطورة ويوظفها توظيفاً جمالياً منذ أعماله المبكرة، وقد واصل هذا التقليد حتى آخر رواياته، وقد وفر كل من علمي التاريخ والفلكلور حصيلة هائلة من المعلومات لظاهرة الحكيم الغريب ومن هذه الحصيلة يمكن تلخيص الملامح الأساسية في الآتي:
* قدوم الغريب من مكان مجهول
* عادة ما يوجد الغريب في الصحراء أو أي مكان مقفر ظامئا وجريحا
* أصل الغريب يرجع لمناطق ازدهار الحضارة الإسلامية
* يحمل الغريب ملامح تختلف كثيرا عن ملامح الجماعة التي تأويه وغالبا ما يتسم بالحكمة والجمال والشجاعة والقوة وما إلى ذلك من الصفات الإيجابية.
* يكتسب الغريب ثقة الجماعة وذلك بفضل الإصلاحات التي يقوم بها في الدول والمجتمع.
ويخلص الكاتب في خاتمة دراسته إلى أنه على الرغم من الغموض في العلاقة بعض الشيء بين الفلكلور والأدب المكتوب فإن الدراسات المنهجية في كليهما وفي علم الفلكلور خاصة قطعت شوطا طويلا لأجل حسم هذا الغموض، وأصبح من الممكن دراسة أي ظاهرة في إطار علاقة الفلكلور بشكل منهجي وعلمي ولا شك في أن دراسة الفلكلور في الأدب تندرج في هذا الإطار.
إن الدراسات الفلكلورية السودانية رغم قصر عمرها، حققت تطورا لا بأس به وتجاوزت غموض مصطلح الفلكلور الذي كان سمة واضحة في كتابات الرواد وتجاوزت النظرة الأحادية والانتقائية للتراث.
إن إبداع الطيب صالح يتكئ بصورة أساسية على الجنس الفلكلوري ويمكن تحديد العديد من الأجناس الفلكلورية على امتداد رواياته وقصصه القصيرة ولا يتوقف على شكل واحد بل ينوع في ذلك التوظيف.