الثلاثاء، أغسطس 05، 2008

الموروث الثقافي السـوداني

الموروث الثقافي السـوداني
تحديات الوحدة الوطنية والانتماء الإقليمي
د. يوسف مختار الأمين
كلية الآداب - جامعة الملك سعود - الرياض
بحث قدم في ندوة "العالم العربي وأفريقيا: تحديات الحاضر والمستقبل" الرباط 15 – 17 أكتوبر 2003 م.
وعبر هذه المدونة نستعرض اجزاء من هذا البحث والذي يتضمن :
المقدمة - عودة إلى الماضي - حوارات الهوية - عوداً على بدء - هوامش - مراجع
مقدمة
يمر السودان منذ إعلان الدولة الوطنية الحديثة في 1956 م. باضطرابات وأزمات سياسية واجتماعية تتصاعد وتيرتها مع تعقيدات الأوضاع الداخلية وارتباطاتها الإقليمية والعالمية. ويردُ المراقبون والباحثون في أوضاع السودان ذلك إلى عدة أسباب يلتقي معظمها في طبيعة المجتمع السوداني العرقية والثقافية وإمكانياته الاقتصادية. ولعل أبرز هذه الأسباب ما يمكن وصفه بالمأزق الثقافي التاريخي والظرف الموضوعي الذى تكونت فيه الدولة. وهو وضع لم تتمكن النخب التى تعاقبت على إدارة البلاد من النظر فيه، ومن ثم مواجهته بفاعلية. وزاد الأمر تعقيدًا تعثر هذه النخب في إنجاز القدر المطلوب من التنمية الشاملة وتأسيس نظام للحكم متفق عليه ويلبي طموحات الغالبية من أهل البلاد. وفي ظل أوضاع التخلف وتدهور مرتكزات الاقتصاد المعيشي الطبيعي وارتفاع معدلات النمو السكاني تتوسع تلقائياً بؤر الصراع الاثني والجهوي والثقافي. ويتجلى هذا الصراع في تبني مواقف سياسية، وثقافية مغايرة للسائد وفي مواجهة السلطة المركزية بحمل السلاح وإذكاء حرب أهلية وصراعات قبلية تتفاقم أبعادها وآثارها يومًا بعد يوم. فالحرب الأهلية في الجنوب ظلت مشتعلة منذ الاستقلال حتى الآن ما عدا فترة توقف لمدة عشرة أعوام. وشهدت البلاد مؤخراً صراعات وحروب في أقاليم السودان الأخرى في الشرق والغرب بين القبائل وبين بعضها والحكومة المركزية. إن استمرار هذه المواجهات قد أهدر موارد البلاد وعطل التنمية مما أدى إلى تفكك المجتمعات المحلية ونزوح الآلاف من السكان إلى غير أماكن تواجدهم الطبيعي، ويجمع المتابعون لمجريات الأمور أن استمرار هذه الأحوال بات يهدد الوحدة الوطنية ما لم يتم تدارك الأوضاع. ولا غرابة أن نجد اليوم أدبيات العلوم السياسية والاجتماعية الحديثة تصف السودان بالدولة المضطربة التي فشل قادتها ومثقفوها بصورة متكررة من مواجهة القضايا المعقدة التي أعاقت تطورها
Woodward,1989؛ منصور خالد: 1993.
تأمل هذه الورقة الاقتراب من قضايا الوحدة الوطنية ومعوقاتها المتمثلة في الصراعات الاثنية والثقافية وذلك من مدخل الموروث الثقافي. وأقصد بالموروث الثقافي كل المنتج الثقافي المادي وغير المادي منذ أقدم العصور حتى الوقت الراهن باعتبار أنه المحيط الذى فيه تشكلّت الهُويَّة السودانية وفيه تتفاعل تحولاتها الدينامية. إن تناول قضية الوحدة الوطنية وعلاقات الانتماء الإقليمي يمكن تناولها من منطلقات مختلفة بمناهج وأطر نظرية متنوعة. وما يهمني هنا، النظر في إمكانية تحليل الأوضاع الحالية انطلاقاً من الموروث المادي الذى يشمل كل ما تركته لنا مجتمعات العصور القديمة من مخلفات أثرية تشمل الأدوات والمباني والفنون وكل ما له صلة بالفعل الإنساني على مر العصور. كما يشمل كل التراث الشعبي من حرف ومنتجات محلية. إن دراسة الثقافة المادية ببعديها التاريخي والتراثي، من مهام علم الآثار الأولى كما سيأتي ذكره، إذ هي تشكل مصدراً أساسياً إن لم يكن وحيدًا لمعرفة التاريخ الثقافي للأمم. وينطلق البحث أيضًا من فكرة أهمية مراجعة التاريخ الثقافي السوداني (Culture History) منذ أقدم عصوره واستدعائه من أجل صوغ مفاهيم جديدة تشكل إطاراً موضوعياً لاستيعاب تعقيدات القضايا الملحة الآن في السودان واقتراح حلول مناسبة لها. فالموروث الثقافي المادي يمكن الاستفادة منه إيجاباً كما حدث في تجارب شعوب وبلدان أخرى في تدعيم ركائز الوحدة الوطنية. ويتم ذلك بالبحث عن المشترك بين فئات المجتمع وإبراز ما يدعم مبادئ التسامح والسلم الاجتماعي خاصة في حالات التعدد الاثني والثقافي في البلد الواحد. وقراءة التاريخ الثقافي في بلد مثل السودان، بشكل متوازن تؤهله لإيجاد مناخات جيدة لتأسيس علاقات إقليمية أكثر إيجابية وفائدة لكل الأطراف. لا تتوقف أهمية التراث المادي كما جاء في هذا السياق عند مرجعيتها وأهميتها التاريخية وإنما تمتد إلى كشف معالم الاستمرارية والتغير في الأنظمة الثقافية. فالتاريخ الثقافي المعروف في شمال البلاد ووسطها يتعاقب في حلقات متصلة منذ العصور الحجرية حتى العصر الإسلامي وذلك مع وجود فترات تحدث فيها تحولات حضارية عميقة تشمل معظم جوانب الحياة الفكرية والمادية ولكنها بدرجات متفاوتة. فعلى سبيل المثال عندما قامت الممالك المسيحية في أواخر القرن السادس الميلادي حلت الديانة وفكرها الجديد مكان أيديولوجية الدولة القديمة القائمة على نظام الحكم العشائري والمعتقد البدائي. وانعكس التغيير أساسًا في الفكر ونظام الحكم ولم يكن واضحاً المستوى نفسه في الجانب المادي من حياة الناس (للمزيد عن التحولات التى أصابت الثقافة السودانية مع وصول المسيحية انظر "أركامانى"). ومع انتشار الإسلام واللغة العربية فيما بعد لم تختف أيضًا عناصر الثقافة المادية للوهلة الأولى بل احتفظت ببعض عناصرها القديمة Adams,1977: 665-680. تنبه لمثل هذه النقطة كثيرون منهم من هو غير متخصص في مجالات الدراسات الحضارية. فحليم اليازجي عند دراسته للحركة الأدبية في السودان خلال فترة تزيد عن ثلاثمائة عام يقول: "... فبان لنا مدى الترابط القائم بين هذا الأدب وواقعه البيئي وأحداث تاريخه وكثيرًا ما كان انعكاسًا مباشراً لهذا التاريخ وتلك البيئات... فالماضي السوداني بكل ما استوعبه من تجربة يقتحم أبواب الحاضر في تداخل عفوي أو مقصود"؛ ويقول: "فالحضارات الموغلة في القدم، تحاور العقل السوداني المتطور الذى تغذي بلبان الثقافات الغربية الأكثر حداثة، وكذلك الثقافات العربية بنزعاتها الدينية والإصلاحية..." (اليازجي، 1985: 11-14).
وأخلص من ذلك إلى القول بأن الموروث المادي القديم والتراثي هو الأكثر قابلية، ضمن مجالات أخرى للبحث فيه عن المشترك بين فئات المجتمع في الماضي والحاضر ومن ثم تأويله لخدمة قضايا الهُويًّة والوحدة الوطنية.

ليست هناك تعليقات: